ليه بنتبرع لمن لا يستحق؟

في سنة ١٩٨٧ في طفلة عندها ١٨ شهر في أمريكا وقعت في بئر عمقها حوالي ٦ متر، أثناء زيارة لخالتها مع الأسرة، وسائل الإعلام قامت تغطي الحدث، وقوات الدفاع المدني وعربيات اسعاف وليلة، عشان ينقذوا الطفلة، وعملية الإنقاذ استغرقت حوالي ٥٦ ساعة متواصلة والحمد لله طلعت بخير.. مش بخير بس لأ ده كمان تم التبرع لأسرتها بمبلغ 700.000 دولار كمان!، واتصورت البنت مع چورچ بوش الأب، والقصة دي تحت مسمى "Baby Jessica"..

المبلغ اللي اتدفع، والتغطية الاعلامية الكبيرة وكل الاهتمام ده كان كبير جداااا وغير منطقي مقارنة بعدد الأموات اللي ممكن يحصل في العالم، سواء من أمراض وأوبئة وحروب وغيره، لكن في مقولة بتقول: One man death is a drama, one million deaths are just statistics! بمعنى أنك ممكن تتفاعل مع الحدث كلما تم شخصنته، لكن الأعداد الكبيرة لا تلقى نفس الاهتمام.. فإيه اللي بيخلينا نتعاطف ونقف جنب شخص والتاني لأ؟ إيه اللي بيخللي الناس تفضّل جمعية خيرية مثلا عن التانية؟، بل الأوقع إيه اللي بيخلي الناس تتبرع أصلا سواء لأشخاص أو مؤسسات؟

فبمناسبة اعلانات الجمعيات الخيرية في رمضان خليني اتكلم عنها بعين تانية خالص..

- لو الناس بتفكر (بمنطقية) في وضع تبرعاتها أو مساعداتها هتلاقي إن في حاجات كتير جدا محدش هيتبرعلها، أو على الأقل في حاجات هيروحلها تبرعات أكبر من حاجات، و تبرعاتنا هتروح فعلا للأماكن اللي تستحق واللي محتاجة، لكن ده بيحصل؟ طبعا لأ مش بيحصل، ونتيجة ده إن أماكن كتير بتكون مسيطرة على التبرعات، في حين إن أماكن كتير محتاجة بتعاني!

- طب الناس بتتبرع بعدم منطقية ليه؟ بص يا سيدي تخيل معايا أنك لابس بدلة تمنها حوالي ألف جنيه، ومتشيك عالأخر ورايح مقابلة شغل وفي طريقك وأنت على كوبري قصر النيل مثلا، لقيت حد بيغرق وبيصرخ من تحت الحقووووني! لو أنت بتعرف تعوم، هل هتفكر مرتين في إنقاذه من عدمه؟، لو مش بتعرف تعوم هل هتفكر مرتين في أنك تجري وتستغيث بناس عشان تنقذه؟، هل هتفكر في شغلك وبدلتك وقتها؟ طبعا لأ، أنت في لحظة بيتوقف عندها الزمن.. أنت اتحركت هنا عشان ده أول عامل من عوامل المساعدة، وهو 1. Closeness القُرب والقرب معناه أنك كنت قريب من الشخص ده مكانيًا، بمعنى دي حادثة جنبك، قرية جنبك محتاجة، أو حتى القُرب المعنوي اللي هو دول جيرانك وأصحابك، وأهلك وبيتك وكدة.. وصلت؟

- تخيل بقة لو قرأت خبر عن واحدة انتحرت مثلا عشان قطعت شرايينها، هل الخبر كدة أثر فيك؟، ولا لو قولتلك ودخلنا الحمام لقينا رسالة مكتوبة أنه كانت مكتئبة وأنها حاولت، بس لقت العالم مكنش يستحق، ولقيناها سايحة في دمها، والدم مغرق الحيطان، لدرجة مخيفة ومرعبة! هتتفاعل مع مين أكتر، الخبر الجامد، ولا الخبر اللي فيه قصة وأحداث؟ وده العامل التاني واللي هو 2. Vividness كل ما كانت الأحداث واخدة صورة قصة، وصف، فيها مشاعر كتيرة كل ما كنت هتفاعل معاها وهدعم أصحابها، مش هعالج السرطان، لأ أنا ههزم السرطان، السرطان مش مرض السرطان ده قاتل خفي، لكن ليه مثلا مش بقول على الحساسية أو الدرن أنها القاتل المش عارف إيه!

- تخيل بقة بس لأخر مرة، لو كل الناس قالت "هي جت عليا؟" حد هيعمل خير، حد هياخد خطوة في مساعدة حد؟ لأ طبعا، ده مش هيحصل، لأن تالت سبب الناس بتاخد خطوة عشانه هو 3. the Drop in the Bucket أو النقطة اللي في البحر، بمعنى لو أنا رايح أجيب شنط رمضان مثلا ل 100 بيت في قرية فيها ألف بيت، في ناس ممكن تقول أنا كدة مش بعمل حاجة، بس لو فكرت كدة فأنا حرمت 100 بيت كنت هخدمهم، فالنقطة دي هي اللي بتخلينا في كتير من الأحيان ناخد خطوات في أماكن كتير لو فكرنا بمنطقية هنلاقي فعلا أن تأثيرنا قليل، لكن النزعة الإيمانية اللي جوانا بتدفعنا لكدة..

ال3 عوامل دول لو ركزت هتلاقي أن أغلب الأماكن الناجحة في جمع التبرعات، أو المساعدات بتتبعهم جداااا، سواء أشخاص أو جمعيات خيرية، لدرجة أن في ال American cancer society في أمريكا قامت الجمعيات الخيرية بشكوى ضدهم، أن هما بيستحوذوا على التبرعات في أمريكا، وهما بيتبعوا العوامل دي جدا..

في عوامل كتيرة تانية طبعا، بس دول الأهم، المرة الجاية ابقوا ركزوا مع الاعلانات، مع المواقف، مع عدم منطقية الناس اللي بتخليهم يتبرعوا لمرض بيعاني منه نسبة قليلة وغير مميت، في حين ألاف بيموتوا من حاجة تانية تماما، ناس بتتفاعل مع قضية شخص واحد، رغم أن في ألاف تانيين بيعانوا، مع مقتل واحد، في حين الأف بيموتوا في حروب، مجاعات، أوبئة، وأمراض... استعن بالله ولا تعجز..